فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ن والقلم}
أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضّل وهُبيرة وورْش وابن مُحيْصِن وابن عامر والكسائي ويعقوب.
والباقون بالإِظهار.
وقرأ عيسى بن عمر بفتحها؛ كأنه أضمر فعلا.
وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف القسم.
وقرأ هارون ومحمد ابن السّميْقع بضمها على البناء.
واختلِف في تأويله.
فروى معاوية بن قُرّة عن أبيه يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ن لوْح من نور».
وروى ثابت البُنانيّ أن {ن} الدواة.
وقاله الحسن وقتادة.
وروى الوليد بن مسلم قال: حدّثنا مالك بن أنس عن سُميٌّ مولى أبي بكر عن أبي صالح السّمان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النُّون وهي الدواة وذلك قوله تعالى: {ن والقلم} ثم قال له اكتب قال وما أكتب قال ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة قال ثم خُتم فمُ القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبّار ما خلقتُ خلقا أعجب إليّ منك وعِزّتيّ وجلالي لأكمِّلّنك فيمن أحببت ولأنقصنّك فيمن أبغضت».
قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته».
وعن مجاهد قال: (نا) الحوت الذي تحت الأرض السابعة.
قال: {والقلم} الذي كُتب به الذِّكر.
وكذا قال مقاتل ومُرّة الْهمْدانيّ وعطاء الخراساني والسُّدّي والكلْبي: إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أوّل ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض.
ثم قرأ ابن عباس {ن والقلم} الآية.
وقال الكلْبي ومقاتل: اسمه البهْمُوت.
قال الراجز:
مالي أراكم كلّكم سكوتا ** والله ربِّي خلق الْبهْمُوتا

وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثا، وقال كعب: لوثوثا، وقال: بلهموثا.
قال كعب: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع؛ فهمّ ليوثا أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابّة فدخلت منخْره ووصلت إلى دماغه، فضجّ الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت.
قال كعب: فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت كما كانت.
وقال الضحاك عن ابن عباس: إن (نا) آخر حرف من حروف الرحمن.
قال: الر، وحم، ون؛ الرحمن تعالى متقطعة.
وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله تعالى به.
وقال ابن كيْسان: هو فاتحة السورة.
وقيل: اسم السورة.
وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح اسمه نصير ونور وناصر.
وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين؛ وهو حقّ.
بيانه قوله تعالى: {وكان حقّا عليْنا نصْرُ المؤمنين} [الروم: 47].
وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون.
وقيل: هو المعروف من حروف المعجم، لأنه لو كان غير ذلك لكان مُعْربا؛ وهو اختيار القُشيْريّ أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره.
قال: لأن (نا) حرف لم يُعْرب، فلو كان كلمة تامة أعرِب كما أعرب القلم، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور.
وعلى هذا قيل: هو اسم السورة، أي هذه سورة (ن).
ثم قال: {والْقلمِ} أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان؛ وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض؛ ومنه قول أبي الفتح البُسْتيّ:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ** وعدُّوه مما يكسِبُ المجد والكرمْ

كفى قلم الكُتّابِ عزّا ورفعة ** مدى الدهرِ أن الله أقسم بالقلْم

وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة؛ ما ذكرناه أعلاها.
وقال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله؛ فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: وهو قلم من نورٍ طوله كما بين السماء والأرض، ويقال خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين؛ فقال: اجر؛ فقال: يا ربّ بِم أجري؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فجرى على اللوح المحفوظ.
وقال الوليد بن عُبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بُنيّ، اتق الله، واعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشرّه، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أوّل ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال يا رب وما أكتب فقال اكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد» وقال ابن عباس: أوّل ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن؛ فكتب فيما كتب {تبّتْ يدآ أبِي لهبٍ}.
وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده.
قال غيره: فخلق الله القلم الأوّل فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض؛ على ما يأتي بيانه في سورة {اقرأ باسم ربِّك} [العلق: 1]
قوله تعالى: {وما يسْطُرُون} أي وما يكتبون.
يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم؛ قاله ابن عباس: وقيل: وما يكتبون (أي) الناس ويتفاهمون به.
وقال ابن عباس: ومعنى {وما يسطُرون} وما يعلمون.
و(ما) موصولة أو مصدرية؛ أي ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة؛ على الخلاف.
{مآ أنت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ} هذا جواب القسم وهو نفي؛ وكان المشركون يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنه مجنون، به شيطان.
وهو قولهم: {يا أيها الذي نُزِّل عليْهِ الذكر إِنّك لمجْنُونٌ} [الحجر: 6] فأنزل الله تعالى ردّا عليهم وتكذيبا لقولهم {مآ أنت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ} أي برحمة ربك.
والنعمة هاهنا الرحمة.
ويحتمل ثانيا أن النعمة هاهنا قسم؛ وتقديره: ما أنت ونعمةِ ربك بمجنون؛ لأن الواو والباء من حروف القسم.
وقيل هو كما تقول: ما أنت بمجنون، والحمد لله.
وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك؛ كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك؛ أي والحمد لله.
ومنه قول لبِيد:
وأفردْتُ في الدنيا بفقد عشيرتي ** وفارقني جارٌ بأرْبد نافِعُ

أي وهو أربد.
وقال النابغة:
لم يُحْرمُوا حُسْن الغِذاء وأمُّهم ** طفحتْ عليك بناتق مِذْكارِ

أي هو ناتق.
والباء في {بِنِعْمةِ ربِّك} متعلقة {بِمجْنُونٍ} منفيّا؛ كما يتعلق بغافل مثبتا.
كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل.
ومحله النصب على الحال؛ كأنه قال: ما أنت بمجنون مُنْعما عليك بذلك.
{وإِنّ لك لأجْرا} أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوّة.
{غيْر ممْنُونٍ} أي غير مقطوع ولا منقوص؛ يقال: مننت الحبل إذا قطعته.
وحبل منين إذا كان غير متين.
قال الشاعر:
غُبْسا كواسِب لا يُمنّ طعامُها

أي لا يقطع.
وقال مجاهد: {غيْر ممْنُونٍ} محسوب.
الحسن: {غيْر ممْنُونٍ} غير مكدّر بالمنّ.
الضحاك: أجرا بغير عمل.
وقيل: غير مقدر وهو التفضل؛ لأن الجزاء مقدّر والتفضل غير مقدر؛ ذكره الماورْدِيّ، وهو معنى قول مجاهد.
{وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ (4)} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} قال ابن عباس ومجاهد: على خُلُقٍ، على دينٍ عظيم من الأديان، ليس دين أحبّ إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خُلُقه كان القرآن.
وقال عليّ رضي الله عنه وعطِيّة: هو أدب القرآن.
وقيل: هو رِفْقه بأمّته وإكرامُه إيّاهم.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهى عنه مما نهى الله عنه.
وقيل: أي إنك على طبع كريم.
الماورديّ: وهو الظاهر.
وحقيقة الخُلُق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسانُ نفسه من الأدب يُسمّى خُلُقا؛ لأنه يصير كالخِلْقة فيه.
وأما ما طُبع عليه من الأدب فهو الخِيم (بالكسر): السّجِيّة والطبيعة، لا واحد له من لفظه.
وخِيم: اسم جبل، فيكون الخُلُق الطبع المتكلّف.
والخِيم الطبع الغريزي.
وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإذا ذُو الفضول ضنّ على الموْ ** لى وعادت لخِيمها الأخلاقُ

أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها.
قلت: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصحّ الأقوال.
وسئلت أيضا عن خُلُقه عليه السلام؛ فقرأت {قدْ أفْلح المؤمنون} إلى عشر آيات، وقالت: «ما كان أحد أحسن خُلُقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبّيْك، ولذلك قال الله تعالى: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ}».
ولم يُذكر خُلُقٌ محمود إلا وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم منه الحظّ الأوفر.
وقال الجُنيْد: سُمِّي خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى.
وقيل سُمِّي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه؛ يدلّ عليه قوله عليه السلام: «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق» وقيل: لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: {خُذِ العفو وأْمُرْ بالعرف وأعْرِضْ عنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: «أدّبني ربي تأديبا حسنا إذ قال: {خُذِ العفو وأْمُرْ بالعرف وأعْرِضْ عنِ الجاهلين} فلما قبلت ذلك منه قال: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ}».
الثانية: روى الترمذِيّ عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمْحُها وخالق الناس بِخُلُق حسن» قال حديث حسن صحيح.
وعن أبي الدّرْداء: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حسن وإن الله تعالى ليُبْغِض الفاحش البذيء» قال: حديث حسن صحيح.
وعنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حُسْنِ الخُلُق وإن صاحب حُسنِ الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم».
قال: حديث غريب من هذا الوجه.
وعن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدْخِل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخُلُق. وسئل عن أكثر ما يُدْخِل الناس النار؟ فقال: الفم والفرْج» قال: هذا حديث صحيح غريب.
وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حُسْن الخُلُق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى.
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مِن أحبكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا قال وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدّقون والْمُتفيْهِقُون» قالوا: يا رسول الله، قد علِمْنا الثرثارون والمتشدّقون، فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون».
قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
قوله تعالى: {فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون}
قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقيل: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحقّ والباطل.
{بِأيِّكُمُ المفتون} الباء زائدة؛ أي فستبصر ويبصرون أيكم المفتون.
أي الذي فُتِن بالجنون؛ كقوله تعالى: {تنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] و{يشْربُ بِها عِبادُ الله} [الإنسان: 6] وهذا قول قتادة وأبي عُبيد والأخفش.
وقال الراجز:
نحن بنو جعْدة أصحاب الفلج ** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

وقيل: الباء ليست بزائدة؛ والمعنى: {بِأيِّكُمُ المفتون} أي الفتنة.
وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه الفُتُون؛ كما قالوا: ما لفلان مجلود ولا معقول؛ أي عقل ولا جلادة.
وقاله الحسن والضحاك وابن عباس.
وقال الراعي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ** لحما ولا لفؤاده معقولا

أي عقلا.
وقيل في الكلام تقدير حذف مضاف؛ والمعنى: بأيكم فتنة المفتون.
وقال الفرّاء: الباء بمعنى في؛ أي فستبصِر ويبصرون في أي الفريقين المجنون؛ أبا لِفِرْقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالْفِرقة الأخرى.
والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان.
وقيل: المفتون المعذّب.
من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حمّيته.
ومنه قوله تعالى: {يوْم هُمْ على النار يُفْتنُون} [الذاريات: 13] أي يعذّبون.
ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
وقيل: المفتون هو الشيطان؛ لأنه مفتون في دينه.
وكانوا يقولون: إن به شيطانا، وعنوْا بالمجنون هذا؛ فقال الله تعالى: فسيعلمون غدا بأيهم المجنون؛ أي الشيطان الذي يحصل من مسّه الجنون واختلاط العقل.
{إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمن ضلّ عن سبِيلِهِ} أي إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه.
{وهُو أعْلمُ بالمهتدين} أي الذين هم على الهدى فيجازِي كُلاّ غدا بعمله. اهـ.